عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحي به إليه عن الله تعالى فناسب أن يصفه بشديد القوى فعرّفه وجمعه تنبيها أنه إذا اعتبر بهذا العالم وبالذين يعلّمهم ويفيدهم هو كثير القوى عظيم القدرة.

قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(١) قيل : هي الرمي ، وقيل : إنّ ذلك مرفوع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هو السلاح والعدّة. ثم القوة تستعمل على أوجه ؛ أحدها : بمعنى القدرة على الشيء والإطاقة له نحو : هو قويّ على عمل كذا ، ومنه : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) ، الثاني : للتّهيّؤ الموجود في الشيء نحو قولنا : الإنسان كاتب بالقوّة. وأن يقال : النّوى بالقوة نخل أي أنه متهيء لأن يجىء منه ذلك. وأكثر من يستعمل القوة بهذا المعنى الفلاسفة ، ويقولون : ذلك على وجهين : أحدهما أن يقال لما كان موجودا ، فيقال : كاتب بالقوّة أي معه المعرفة لكنه ليس ملتفتا لها. والثاني : أن يقال : هو كاتب بالقوة وليس معه معرفة بذلك ولكنّه قابل للتعلّم في الجملة ، إذ هو من جنس يمكن تعلّمه ذلك. ويقابلونها بالفعل فيقولون : هذا كاتب بالفعل أي متلبّس بذلك.

قوله تعالى : (تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ)(٢) قيل : هم الذين فني زادهم. وحقيقتهم النازلون بالأرض القواء ، وهي القفر من الأرض ؛ يقال : أقوى الرجل : إذا صار في قواء ، كأترب : إذا صار في التراب. ويقال لها القيّ أيضا. وفي حديث عائشة رضي الله عنها : «وبي رخّص لكم في صعيد الأقواء» (٣) الأقواء : جمع قواء وهو القفر من الأرض ، قاله الهرويّ وفيه نظر من حيث إنّ فعالا لا يطّرد جمعه على أفعال. وفي الحديث ـ أيضا ؛ «صلّى بأرض قيّ» (٤) والأصل قوء فقلبت الواو الأولى ياء ثمّ قلبت الثانية كذلك لأنه صار من باب ميّت وسيّد. وقيل : إنما قيل : لهم مقوون لأنّ من نزل بالقفر حصل له فقر ، وفي عبارة بعضهم (٥) : وتصوّر من حال الحاصل في القفر الفقر ، وهو تجانس بديع.

__________________

(١) ٦٠ / الأنفال : ٨.

(٢) ٧٣ / الواقعة : ٥٦.

(٣) النهاية : ٤ / ١٢٧.

(٤) النهاية : ٤ / ١٣٦ ، وذكره في مادة «قيي» والحديث لسلمان.

(٥) هو الراغب كما في المفردات : ٤١٩.

٤٢١

واقتويته : أي استخدمته ، وأنشد لعمرو بن كلثوم (١) : [من الوافر]

متى كنّا لأمّك مقتوينا؟

أي خدما. وفي حديث مسروق : «أنه أوصى في جارية له أن قولوا لبنيّ : لا تقتووها بينكم ولكن بيعوها ظاهرة» (٢) إنهم لا يستخدمونها فإنّه قد تضيع مصلحتها بسبب الاشتراك ، إذ يتّكل كلّ واحد منهم على الآخر. وقد فسّروه بغير هذا ؛ فقال النضر بن شميل : يقال : بيني وبين فلان ثوب فتقاويناه. أي أعطيته به ثمنا أو أعطاني هو فأخذه أحدنا. وقد اقتويت منه الغلام الذي كان بيننا : إذا اشتريت منه حصّته. قال أبو زيد : إذا كان الغلام أو الجارية أو الدابة أو الدار بين رجلين فقد تقاوياها ، وذلك إذا قوّماها فقامت على ثمن ، فهما في التّقاوي سواء. فإذا اشتراها أحدهما فهو المقتوي دون صاحبه. وقد أقواه البائع.

والتّقاوي والإقواء والاقتواء يكون بين الشّركاء ، فأمّا في غير الشّركاء فلا.

والإقواء في الشعر أن يكون أحد الرويّين مجرورا والآخر مرفوعا. وقد ترجم الهرويّ (لِلْمُقْوِينَ)(٣) للمقوين في مادة (ق وي). وليس بصحيح بل هو من مادة (ق وو).

__________________

(١) في الأصل للحارث بن حلزة ، وهو وهم من الناسخ. والعجز من معلقته ، وصدره (كما في شرح المعلقات للزوزني : ١٢٨) :

تهدّدنا وأوعدنا رويدا

القتو : خدمة الملوك ، والقتي مصدر كالقتو ، تنسب إليه فتقول : مقتوي ، ثم يجمع مع طرح ياء النسبة فيقال : مقتوون ومقتوين مثل أعجمون وأعجمين.

(٢) النهاية : ٤ / ١٢٨.

(٣) ٧٣ / الواقعة : ٥٦.

٤٢٢

فصل القاف والياء

ق ي ض :

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً)(١) أي ننحّ ليستولي عليه استيلاء القشرة على البيضة. والقيض ـ بالضاد ـ قشر البيض الأعلى ، وبالظاء شدة الحر. وقيل : سيناله من حيث لا يحتسب.

يقال : هو قيض لهذا وقياض له : أي مساو ، ومنه قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ)(٢). وفي الحديث : «ما أكرم شابّ شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند شيبته» (٣). والمقايضة في البيوع : المبادلة ، مأخوذ من التّساوي ؛ يقال : هما قيضان ، أي مثلان متساويان في القيمة. وفي حديث يوم القيامة : «قيضت هذه السماء الدّنيا عن أهلها» (٤) أي شقّت ، ومنه اشتقّ قيض البيضة. وانقاضت البيضة انقياضا.

ق ي ل :

قوله تعالى : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٥). المقيل : الحلول وقت القيلولة ، وهي شدة الحرّ : قبل الزوال بساعة وبعده بأخرى. وقيل : هي النوم نصف النهار. فالمقيل يكون هنا مصدرا ومكانا وزمانا ، أي أحسن قيلولة أو مكانها أو زمانها ؛ يقال : قال يقيل قيلولة ومقيلا. وقال الأزهريّ : القيلولة والمقيل : الاستراحة نصف النهار عند العرب وإن لم يكن مع ذلك نوم ، قال الله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً). والجنة لا نوم فيها.

__________________

(١) ٣٦ / الزخرف : ٤٣.

(٢) ٢٥ / فصلت : ٤١.

(٣) النهاية : ٤ / ١٣٢ ، وفيه : « .. عند سنه».

(٤) المصدر السابق ، من حديث ابن عباس.

(٥) ٢٤ / الفرقان : ٢٥

٤٢٣

ويقال في البيع : قلته وأقلته قيلولة وإقالة (١) ، كأنهم جعلوا الراحة الحاصلة بذلك مثل الراحة الحاصلة وقت القائلة.

قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(٢) أراد أنه يأخذهم في إحدى الغرّتين ؛ إمّا البيات بالليل وإمّا النوم نصف النهار ، وهما وقت راحة الإنسان.

والقيلة : شرب نصف النهار ، والصّبوح : شرب الغداة ، والغبوق : شرب العشيّ ، والقمحة : شرب أول الليل ، والجاشريّة : شرب السّحر. وقيل ؛ القمحة : شرب العشيّ.

والقيلة ـ بالكسر ـ الأدرة (٣) ؛ وفي حديث أهل البيت : «ولا حامل القيلة» (٤). قلت : كأنّها مشتقة من القالة ، وهي كثرة القول ، فتكون من مادة أخرى لا من هذه (٥).

__________________

(١) أقلته البيع إقالة : فسخته.

(٢) ٤ / الأعراف : ٧ ، أي مستريحون نصف النهار.

(٣) الأدرة : انتفاخ الخصية. وذكرها ابن منظور بالفتح والكسر.

(٤) النهاية : ٤ / ١٣٤.

(٥) وهم المؤلف ؛ فالقيلة بهذا المعنى ليست من كثرة القول (أنظر اللسان ـ مادة قيل).

٤٢٤

باب الكاف

الكاف :

حرف معناه التشبيه ، وقد ترد تعليلا كقوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ)(١). وتكون اسما إذا جرّت بإضافة حرف أو أسند إليهما ، كقول الشاعر (٢) : [من الرجز]

فصيّروا مثل كعصف [مأكول]

في أحد الوجهين. وقول الأعشى (٣) : [من البسيط]

هل تنتهون؟ ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل

وزعم الأخفش أنها تكون اسما مطلقا. ويتعيّن حرفيتها في قولك : جاء الذي كعمرو ، ولما قرّرناه في غير هذا. وقد ترد زائدة (٤) ، وجعلوا منه قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٥) قيل : لئلا يلزم محذور ، وهذا كلّه مقرّر في موضعه.

__________________

(١) ١٩٨ / البقرة : ٢.

(٢) أنشده أبو العباس محمد بن يزيد ، وصدره :

ولعبت طير بهم أبا بيل

ذكر ابن منظور الصدر ـ مادة عصف. وهو الشاهد ٢٩٨ في المغني (ص ١٨٠). والإضافة منهما. أراد : مثل عصف مأكول.

(٣) الديوان : ٦٣ ، وفيه : ولا ينهى.

(٤) وذلك إذا جاءت للتوكيد.

(٥) ١١ / الشورى : ٤٢ ، وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل. كما قيل إن الكاف في الآية غير زائدة (مغني اللبيب : ١٧٩).

٤٢٥

فصل الكاف مع الهمزة

ك أس :

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ)(١) الكأس : الإناء الذي فيه الخمر غالبا. قيل : ولا يقال له كأس إلا وفيه خمر وإلّا فهو قدح ، كالخوان مع المائدة في أخوات لها قد ذكرتها. وقد يطلق على كلّ واحد من الشراب أو الإناء بانفراده كأس ؛ يقال : كأس خال من الشراب ، وشربت كأسا ، قال تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً)(٢) ، وقال تعالى : (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)(٣) ، وإبدال همزتهما ألفا مطّرد نحو رأس (٤). وهي مؤنثة وتجمع على أكؤس وكؤوس نحو أفلس وفلوس (٥).

فصل الكاف والباء

ك ب ب :

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا)(٦). الكبّ : إسقاط الشيء على وجهه ، والإكباب : جعل وجهه مكبوبا على العمل ، وهذا عكس ما هو المعهود من أنّ الفعل المجرد يكون قاصرا ، فإذا دخلت الهمزة عدته لمفعول نحو : خرج زيد وأخرجته ، وهذا عكسه. فيقال : كببت زيدا فأكبّ ، ومثله : قشعت الريح السحاب فأقشعت ، وتحقيقه أنّ الهمزة هنا للضرورة والمطاوعة.

والكبكبة : تكرير الكبّ ، وهو تدهور الشيء في هوّة ، كقوله : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ

__________________

(١) ٥ / الإنسان : ٧٦.

(٢) ١٧ / الإنسان : ٧٦.

(٣) ١٨ / الواقعة : ٥٦.

(٤) قد يترك الهمز تخفيفا.

(٥) وزاد ابن منظور : وكئاس ، واستشهد ببيت للأخطل فيه هذا الجمع.

(٦) ٢٢ / الملك : ٦٧.

٤٢٦

وَالْغاوُونَ)(١). وقيل : المعنى جمعوا. وقيل : ألقي بعضهم على بعض ، وهي متقاربة.

والكبكبة : الجماعة ـ بضمّ الكاف الأول وفتحها ـ وفي الحديث : «كبكبة من بني إسرائيل» (٢) أي جماعة. وفي حديث ابن زمل (٣) : «فأكبّوا رواحلهم في الطريق» قال الهرويّ : كذا الرواية ، والصواب كبّوا ، والمعنى : ألزموها الطريق. والرجل يكبّ على عمل يعمله : إذا لزمه ، وأنشد قول عنترة (٤) : [من الكامل]

قدح المكبّ على الزناد الأجذم

والكواكب : جمع كوكب ، وهو كجوهر في زيادة واوه ، ولا يقال له كوكب إلا عند ظهوره ؛ فالكواكب : النجوم البادية ، وأنشد للنابغة الذبيانيّ (٥) : [من الطويل]

فإنك شمس والنجوم كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

ووجه الردّ أنه سمّاه كوكبا عند عدم ظهوره ، وكان مراد الراغب (٦) الحقيقة ، وقول النابغة على المجاز.

ويقال : هم كوكبة واحدة أي مجتمعون. وكوكب العسكر : ما يلمع فيه من الحديد على التشبيه ، وفي المثل : «تفرّقوا تحت كلّ كوكب» إذا تشتّتوا.

ك ب ت :

قوله تعالى : (كُبِتُوا)(٧) أي غيظوا شدة الغيظ ، وقيل : أذلّوا وأخزوا. وقيل : الأصل

__________________

(١) ٩٤ / الشعراء : ٢٦.

(٢) النهاية : ٤ / ١٤٤ ، وذكرها في مادة «كبك» وهو الصواب.

(٣) في الأصل : حديث زمل ، والتصويب من النهاية مع الحديث : ٤ / ١٣٨.

(٤) وصدره كما في الديوان : ١٤٥ :

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

(٥) الديوان : ٧٨ ، من اعتذارية إلى النعمان.

(٦) المفردات : ٤٢٠.

(٧) ٥ / المجادلة : ٥٨.

٤٢٧

فيه كبدوا ؛ أي أصيب كبدهم بما لا يقدر عليه من الهموم والآلام فقلبت الدال تاء لقرب مخرجهما ، كقولهم : سبت رأسه وسبدها أي حلقها. وقيل : هو الحزن. وقيل : أشدّ الحزن ، وهو الصحيح. ويدلّ عليه أنه أخصّ من الحزن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأى طلحة حزينا مكبوتا» (١). وقيل : الكبت : الردّ بعنف.

قوله تعالى : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ)(٢) قال أبو عبيدة : أو يهزمهم. وقيل : يحزنهم. والأصل فيه ما قدّمته وما ذكره المفسرون أسباب لذلك.

ك ب د :

قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ)(٣) أي مشقّة شديدة. وأصل ذلك من قولهم : كبدته أكبده أي أصبت كبده ، فأصابه الكبد والكباد أي وجع وصل إلى الكبد. ونبّه تعالى بقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ، على أنه خلقه على حالة لا ينفكّ من المشاقّ ما لم يقتحم العقبة ويستقرّ في دار القرار ، كقوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(٤).

وكبد السماء وكبد القوس : وسطهما تشبيها بكبد الإنسان لتوسّطها البدن. وكبد كلّ شيء وسطه. وفي الحديث : «وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» (٥) أي ما خفي من كنوزها. وقيل : (فِي كَبَدٍ)(٦) أي خلق منتصبا غير منحن. وما أبعد هذا لفظا ومعنى! وقال ابن عرفة : في كبد أي في ضيق كأنه يشير لمحلّه في الرحم ، وأنشد للبيد (٧) : [من المنسرح]

يا عين هلّا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد

قال : والإنسان في بطن أمّه في ضيق ثم يكابد ما يكابده من أمر دنياه وآخرته ثم الموت إلى أن يستقرّ في جنة أو نار.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ١٣٨. قيل : والأصل فيه «مكبودا» أي أصاب الحزن كبده ، فقلبت الدال تاء.

(٢) ١٢٧ / آل عمران : ٣.

(٣) ٤ / البلد : ٩٠.

(٤) ١٩ / الانشقاق : ٨٤.

(٥) النهاية : ٤ / ١٣٩.

(٦) من الآية الأولى.

(٧) الديوان : ١٦٠. وفي رواية اللسان ـ مادة كبد خلاف.

٤٢٨

وفلان يكابد معيشته ، أي يقاسي منها ضيقة وشدة ، قال الشاعر (١) :

وفي الحديث : (كبدهم البر) (٢) أي شقّ عليهم.

ك ب ر :

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ)(٣) أي صعب وشقّ. قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ)(٤) أي شاقّة. ثم إنّ الكبر والصغر اسمان متضايفان باعتبار بعضها ببعض ، فربّ شيء يكون كبيرا بالنسبة لما دونه ، صغيرا بالنسبة لما فوقه ، ويستعملان في الكمية المتصلة كما في الأجسام نحو : الجمل أكبر من الفرس ، كالقلّة والكثرة في استعمالهما في الكمية المنفصلة كالأعداد. وقد يتعاقب الكبير والكثير على شيء واحد وذلك بنظرين مختلفين كما في قوله تعالى : (إِثْمٌ كَبِيرٌ)(٥) قرىء «كبير» و «كثير» بالياء الموحّدة والثاء المثلّثة (٦). وقد حرّرناه بأكثر من هذا في موضع هو أليق به. والأصل استعماله في الأعيان ثم يستعار للمعاني كقوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً)(٧).

قوله تعالى : (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)(٨) وصفه بالكبر تنبيها على أنّ العمرة حجّ أصغر ، ولذلك قال عليه الصلاة والسّلام : «العمرة هي الحجّ الأصغر» (٩) ، ويستعمل ذلك اعتبارا بتقدّم الزمان. ومنه : فلان كبير أي مسنّ ، قال الله تعالى : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)(١٠). قال الشاعر (١١) : [من المتقارب]

__________________

(١) لم يذكره المؤلف.

(٢) النهاية : ٤ / ١٣٩ ، من حديث بلال.

(٣) ٣٥ / الأنعام : ٦.

(٤) ٤٥ / البقرة : ٢.

(٥) ٢١٩ / البقرة : ٢.

(٦) المفردات : ٤٢٠.

(٧) ٤٩ / الكهف : ١٨.

(٨) ٣ / التوبة : ٩.

(٩) لم يذكره إلا الراغب (المفردات : ٤٢١) حسب مظانّنا.

(١٠) ٤٠ / آل عمران : ٣.

(١١) البيت للصلتان العبدي من شعراء حماسة أبي تمام (التبريزي : ٣ / ١٩١) ، وانظر معاهد التنصيص : ١ / ٧٣. ونسبه الجاحظ إلى الصلتان السعدي.

٤٢٩

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كرّ الغداة ومرّ العشيّ

وقد يقال باعتبار المنزلة والرفعة كقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)(١). قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ)(٢) إنّما أطلق عليه ذلك على زعمهم وتسميتهم أي باعتبار جثته فإنه كان أعظمهم جثة. قوله تعالى : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها)(٣) أي رؤساءها ، وذلك على سبيل الاستدراج كقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها)(٤)(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)(٥). قوله تعالى حكاية عن فرعون (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ)(٦) أي رئيسكم في هذه الصناعة. وفي المثل : «ورثه كابرا عن كابر» (٧) أي أبا عظيم القدر عن أب عظيم مثله.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)(٨) وقرىء «كبير» (٩) فالكبيرة متعارفة في كلّ ذنب لعظم عقوبته ، واختلف الناس في حدّها وعدّها ، ولهما موضع هو أليق بهما بيّنّاهما فيه ولله الحمد.

قوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً)(١٠) أي عظم ذنبها وعقوبتها لأنها قول باطل في حقّ من لا يجوز عليه ذلك بوجه. وليست كسائر الكذبات ؛ فإنّ الكذب قد يقال فيمن يجوز عليه مثل ذلك الشيء المكذوب فيه كقولك : الأمير ظلمني ، ولم يكن ظلم ، فهذا كذب قبيح وإن كان ممكنا جائزا وقوع الظلم منه ، والباري تبارك وتعالى لا يتصور في حقّه ما افتروه.

__________________

(١) ١٩ / الأنعام : ٦.

(٢) ٥٨ / الأنبياء : ٢١. جذاذا : قطعا وكسرا.

(٣) ١٢٣ / الأنعام : ٦.

(٤) ١٦ / الإسراء : ١٧.

(٥) ١٨٢ / الأعراف : ٧.

(٦) ٧١ / طه : ٢٠.

(٧) ليس مثلا ، فغير مذكور في مظان الأمثال ، ولكنه قول ذكرته المعاجم.

(٨) ٣٧ / الشورى : ٤٢.

(٩) قرأه يحيى بن وثاب ، وفسر عن ابن عباس أن كبير الإثم هو الشرك ، فهذا موافق لمن قرأ «كبير الإثم» بالتوحيد. وقرأ العوام «كبائر» ، فيجعلون كبائر كأنه شيء عام (معاني القرآن : ٣ / ٢٥).

(١٠) ٥ / الكهف : ١٨.

٤٣٠

قوله : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(١) يعني أنّ مقته لكم على ذلك أشدّ من مقته لكم على غيره من الذنوب ، ولذلك أخرجهما نصبا على التمييز.

قوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ)(٢) إشارة إلى من تولّى حديث الإفك ، ونبّه بذلك على أنّ كلّ من سنّ سنّة قبيحة يقتدي بها غيره فذنبه أعظم وعقوبته أشدّ. ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» (٣) وفي عكسه كذلك.

والكبر والتّكبّر والاستكبار تتقارب معنى ، لكنّ الكبر الحالة التي يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه ، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره. وأعظم الكبر والتكبّر : ما وقع في جانب أوامر الله ونواهيه ، وذلك أن يتكبّر على أداء طاعاته والانزجار عن معاصيه. والاستكبار يقال باعتبارين ؛ أحدهما تحرّي الإنسان وطلبه أن يكون كبيرا. وهذا إذا كان على ما يجب وفي المكان الذي يجب وفي الزمان الذي يجب محمود غير مذموم. والثاني أن يتشبّع فيظهر من نفسه ما ليس له أو يرى نفسه أكبر من غيره بما أنعم الله عليه من مال أو جاه. ولذلك قال تعالى : (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(٤) ، فجعل إرادة ذلك علة مستقلة بدليل إعادة «لا» فيما عطف. وجميع ما ورد في القرآن العظيم من الاستكبار من هذا النوع كقوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)(٥) أي واستكبر ، (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)(٦) قابل المستكبرين بالضعفاء منبهة على أنّ استكبارهم عليهم كان بما لهم من القوّة في البدن والمال. وقوله : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(٧) فنبّه بقوله : (فَاسْتَكْبَرُوا) على تكبّرهم وإعجابهم بأنفسهم وبقوله : (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أنّ الحامل لهم على ذلك ما تقدّم من جرمهم ، وأنّ ذلك ليس شيئا حادثا

__________________

(١) ٣ / الصف : ٦١.

(٢) ١١ / النور : ٢٤.

(٣) ذكره مسلم في صحيحه في باب الزكاة : ٦٩.

(٤) ٨٣ / القصص : ٢٨.

(٥) ٧ / النوح : ٧١.

(٦) ٤٧ / غافر : ٤٠.

(٧) ١٣٣ / الأعراف : ٧.

٤٣١

منهم بل كان ديدنهم وهجّيراهم (١). والتكبّر ـ أيضا ـ يقال على وجهين أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيرها ، وبهذا وصف الله تعالى نفسه فقال : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)(٢) وما أبلغ تناسب هذه الصفات الثلاث : العزة والجبروت والتكبّر! والثاني أن يوصف به من يشبّع بما ليس له ويتكلّف ذلك ، وهذا في أوصاف الناس كقوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(٣) قرىء بإضافة القلب إليه (٤). ويوصف القلب بالمتكبّر ، ولا يجوز أن يوصف بالثاني غير الباري تعالى : وجوّز ذلك الراغب فقال (٥) : ومن وصف بالتكبّر على الوجه الأول فمحمود. ثم قال : ويدلّ على أنه قد يصحّ أن يوصف الإنسان بذلك ولا يكون مذموما.

قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)(٦) فافهم أنّ التكبّر فيها بحقّ سائغ ، وفيه نظر لأنه من باب قوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ)(٧) إذ لا مفهوم لهذه الصفة ، أو يكون فائدة قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أنهم لو سئلوا عن تكبّرهم لأجابوا بأنه بغير حقّ كما قيل ذلك في قوله : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ)(٨).

والكبر : كبر السّنّ ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كبّر الكبر» (٩) أي قدّموا الكبير منكم. والكبرياء : الترفّع عن الانقياد والطاعة ، وذلك لا ينبغي أن يوصف بها غير الله تعالى ، ولذلك قال : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ)(١٠) أي له خاصة لا لغيره. وإليه أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما حكاه عن

__________________

(١) الهجّير : الدأب والعادة ، وكذلك الهجيّري والإهجيري (اللسان ـ مادة هجر).

(٢) ٢٣ / الحشر : ٥٩.

(٣) ٣٥ / غافر : ٤٠.

(٤) يقول الفراء : ومن نوّن جعل القلب هو المتكبر الجبار. وهي في قراءة عبد الله «كذلك يطبع الله على قلبّ كلّ متكبر جبار» (معاني القرآن : ٣ / ٨).

(٥) المفردات : ٤٢٢.

(٦) ١٤٦ / الأعراف : ٧.

(٧) ١١٧ / المؤمنون : ٢٣.

(٨) ١١٢ / آل عمران : ٣.

(٩) في الأصل : «كبرّ كبّر» والتصويب من النهاية : ٤ / ١٤١ ، وفيه رواية «الكبر الكبر» ، وهو حديث القسامة.

(١٠) ٣٧ / الجاثية : ٤٥.

٤٣٢

ربّه : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في شيء منهما قصمته» (١).

والكبار : مخففا أبلغ من الكبير. وأنشد (٢) :

كحلفة من أبي دثار

يسمعها لاهه الكبار

والكبّار ـ مشددا ـ أبلغ منه قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً)(٣).

وأكبرته : جعلته أو اعتقدته كبيرا ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)(٤) ، وكبّرته مثله أيضا. ومعنى كبرياء الله تعالى وصفنا له بالعظمة ، وبقولنا : الله أكبر.

قوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(٥) إشارة إلى ما خصّهما تعالى من إبداعه عجائب صنعته ولطائف حكمته التي لا يعلمها إلا قليل ممن وصفهم بقوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٦) الآية ، وليس قصد ذلك كبر جثّتهما فإنّ أكثر الخلق يعلمون ذلك.

قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى)(٧) إشارة إلى العذاب الواقع يوم القيامة ، أعاذنا الله منه ، وفيه تنبيه أنّ كلّ ما ينال الكافر من العذاب في الدنيا أو في البرزخ صغير في جنب ما يناله في الآخرة.

قوله : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ)(٨) أي إحدى العظائم ، قيل : عنى بها النار.

__________________

(١) المفردات : ٤٢٢. وزاد ناسخ د : «وروي الكبرياء إزاري والعظمة ردائي فمن نازعني واحدا منهما قصمته».

(٢) البيت للأعشى كما في الديوان : ٥٣ ، وصدره فيه :

كحلفة من أبي رياح

ورواية اللسان (مادة لوه) : كدعوة من أبي رياح.

(٣) ٢٢ / نوح : ٧١.

(٤) ٣١ / يوسف : ١٢.

(٥) ٥٧ / غافر : ٤٠.

(٦) ١٩١ / آل عمران : ٣.

(٧) ١٦ / الدخان : ٤٤.

(٨) ٣٥ / المدثر : ٧٤.

٤٣٣

قوله تعالى : (قالَ كَبِيرُهُمْ)(١) عنى بذلك أكبرهم عقلا لا سنّا ، وفي الحديث : «أخذ عودا في منامه ليتّخذ منه كبرا» (٢) بزنة طلل. قال شمر : هو الطبل له وجه واحد (٣). وقول المؤذن : «الله أكبر الله أكبر» (٤) ليس فيه تفضيل ، إنّما المراد به الله الكبير ، كقول الأحوص (٥) : [من الكامل]

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسما إليك مع الصدود لأميل

وقول الفرزدق (٦) : [من الكامل]

إنّ الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول /

أي المائل ، وعزيز مائل (٧). والنحويون يقولون «من» محذوفة لأنّ أفعل خبر ، والخبر يكثر فيه الحذف ، والتقدير : أكبر من كلّ شيء ، ومثله قول الخنساء (٨) : [من الطويل]

فما بلغت كفّ امرىء متناول

بها المجد إلا حيثما نلت أطول

أي أطول منه. قال أبو بكر : العوامّ يضمّون الراء من «أكبر» يعني أنّ الصواب فتح الراء ، ووجهه بأنّ الأذان كلماته مبنيّة على السكون لتقطيع كلماتها وترتيلها. فلما كانت الراء ساكنة نقل إليها حركة همزة الجلالة وهي فتحة ففتحت الراء ، وقد اعترض عليه بأن همزة الجلالة همزة وصل وهي ساقطة درجا فكيف ننقل فتحها؟ وهو اعتراض ساقط لأنه قال : إنّ الكلمات على تقدير السكون والقطع من بعضها ، فكأنّ الهمزة مبتدأ بها غير مندرجة. ومثل ذلك قراءة (الم اللهُ)(٩) ففتح الميم ؛ قيل : الفتحة لالتقاء الساكنين ،

__________________

(١) ٨٠ / يوسف : ١٢.

(٢) النهاية : ٤ / ١٤٣ ، والحديث لعبد الله بن زيد صاحب الأذان.

(٣) وقال ابن منظور ـ وقد ذكر الحديث ـ : وقيل : هو الطبل ذو الرأسين.

(٤) جاء أفعل هنا موضع فعيل.

(٥) كذا في الإعجاز والإيجاز ، وفي رواية الديوان (ص ١٥٣) : أصبحت أمنحك.

(٦) الديوان : ٧١٤ ، وهو مطلع لقصيدة طويلة.

(٧) المائل أي ذو الميل وهو الأحوص ، وعزيز مائل هو الفرزدق. وانظر البيتين.

(٨) ديوان الخنساء : ١٠٣ من رثائها لصخر.

(٩) ١ و ٢ / آل عمران : ٣.

٤٣٤

وقيل : حركة نقل ، واعترض بما تقدّم وأجيب بما ذكرته. وسمع من كلامهم : ثلاثة أربعة ـ بفتح هاء ثلاثة وصلا ، وقد قررنا ذلك في غير هذا.

وفي الحديث : «لا تكابروا الصّلاة بمثلها في التّسبيح بعد التّسليم في مقام واحد» (١) قيل : معناه لا تغالبوا الصلاة بأن تجعلوا تسبيحها أكبر منها بعد أن تسلّموا منها ، بل ينبغي أن تكون زائدة عليه.

فصل الكاف والتاء

ك ت ب :

قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ)(٢) الكتاب ـ في الأصل ـ مصدر كتب أي جمع. قال تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٣) أي : كتب ذلك عليكم كتابا كقوله : (صُنْعَ اللهِ)(٤) ثم يطلق على المكتوب كقولهم : خلق الله ، وضرب الأمير ، وأنشد : [من الطويل]

نشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

إليك من الحجاج يبلى كتابها

أي مكتوبها ، والكتاب المذكور في الآية الكريمة هو القرآن العزيز ، سمي بذلك لما جمع فيه من الأخبار والقصص والأحكام والمواعظ والأمثال والأوامر والنّواهي والزّواجر والإنذار والإعذار والتحذير والبشارة إلى غير ذلك.

وكلّ ما جمعته فقد كتبته ، ومنه قيل لخرز القربة كتب جمع كتبة. وأنشد لذي الرمّة (٥) : [من البسيط]

مشلشل ضيّعته بينها الكتب

__________________

(١) النهاية : ٤ / ١٤٢.

(٢) ١ و ٢ / البقرة : ٢.

(٣) ٢٤ / النساء : ٤.

(٤) ٨٨ / النمل : ٢٧.

(٥) وصدره كما في الديوان : ١ / ١١ :

وفراء غرفيّة أثأى خوارزها

٤٣٥

ومنه : كتيبة الجيش ، لاجتماع الفرسان ، وأنشد : [من الكامل]

وكتيبة آنستها بكتيبة

حتى إذا اجتمعت نقصت لها يدي

ومنه : كتبت البغلة والقلوص أي جمعت بين شفريها بحلقة ونحوها ، وأنشد (١) [من البسيط]

لا تأمننّ فزاريّا خلوت به

على قلوصك واكتبها بأسيار

وسميت الكتابة كتابة لضمّ الحروف فيها بعضها إلى بعض ، والأصل في الكتابة النظم بالخطّ ، وفي المقال النظم باللفظ. ثم قد يستعمل كلّ منهما للآخر ، قال الراغب (٢) : ولذلك سمي كلام الله وإن لم يكن كتابا لقوله : (الم ذلِكَ الْكِتابُ). قلت : نصب كتابا على أنه مفعول اسميّ لا أنّه خبر ليكن. ويعني بذلك أنّ القرآن كلام الله مسمّى بالكتاب قبل أن يكتب بالخطّ. وأقرب من ذلك أن يقال : سمي كتابا لما يؤول إليه من الكتابة في علم الله تعالى. ثم قد يعبّر بالكتابة عن الإيجاب والإثبات والتقدير (٣) والفرض. قال بعضهم : وجه ذلك أنّ الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب ؛ فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى. ثم يعبّر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد به توكيده بالكتابة التي هي المنتهى ، كقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(٤) أي حكم وقضى بذلك وأثبته في اللوح المحفوظ.

قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(٥) اي في حكمه.

قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٦) أي فرضنا وأوجبنا. قوله : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ)(٧) أي لو لا أن أوجب عليهم الجلاء من ديارهم. قوله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ)(٨) إشارة إلى أنّه بخلاف صفة من قال في حقّهم : (وَلا

__________________

(١) اللسان ـ مادة كتب ، وينسب إلى بني فزارة أنهم كانوا يرمون بغشيان الإبل.

(٢) المفردات : ٤٢٣.

(٣) الكلمة مذكورة فقط في د.

(٤) ٢١ / المجادلة : ٥٨.

(٥) ٧٥ / الأنفال : ٨.

(٦) ٤٥ / المائدة : ٥.

(٧) ٣ / الحشر : ٥٩.

(٨) ٢٢ / المجادلة : ٥٨.

٤٣٦

تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا)(١) قيل : لأنّ معنى «أغفلنا» من قولهم : أغفلت الكتاب : إذا جعلته خاليا من الكتابة والإعجام.

وقد يعبّر بالكتابة عن القضاء الممضى وما يصير في حكمه ، وعليه حمل قوله تعالى : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(٢) قيل : ذلك مثل قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٣). قوله : (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)(٤) أي مثبتون غير مضيّعين لعمله ، كقوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ)(٥) وقوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٦). قوله : (رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(٧) أي أثبتنا معهم وأدخلنا في زمرتهم ، وكأنه إشارة إلى قوله في موضع آخر : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ)(٨). قوله : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٩) إشارة إلى ما أثبت فيه أعمال بني آدم ، وهي صحيفة كلّ إنسان ، وما كتب له من خير أو شرّ ، جليل أو حقير ، وقيل : الإشارة إلى صغائر الذنوب وكبائرها.

قوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(١٠) هذا مراد به اللوح المحفوظ. قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ)(١١) يعني ما قدّره من الحكم ، وذلك إشارة إلى قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(١٢).

__________________

(١) ٢٨ / الكهف : ١٨.

(٢) ٨٠ / الزخرف : ٤٣.

(٣) ٣٩ / الرعد : ١٣.

(٤) ٩٤ / الأنبياء : ٢١.

(٥) ١٩٥ / آل عمران : ٣.

(٦) ٣٠ / الكهف : ١٨.

(٧) ٨٣ / المائدة : ٥.

(٨) ٦٩ / النساء : ٤.

(٩) ٤٩ / الكهف : ١٨.

(١٠) ٢٢ / الحديد : ٥٧.

(١١) ٦٨ / الأنفال : ٨.

(١٢) ٥٤ / الأنعام : ٦.

٤٣٧

قوله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا)(١) أي ما قضاه وقدّره وأبرمه. وفي قوله لنا دون علينا معنى لطيف ذكره العلماء ، وهو أن فيه تنبيها أنّ ما يصيبنا نعدّه نعمة لنا (٢) ولا نعدّه نقمة علينا.

قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)(٣) قيل : معناه وهبها لكم ثم حرّمها عليكم بامتناعكم من قبولها ودخولها. وقال آخرون : كتبها لكم بشرط أن تدخلوها وأتى باللام دون «على» لما تقدّم ، يعني أن دخولهم إيّاها يعود عليهم بنفع في الآجل والعاجل فيكون ذلك لهم لا عليهم ، وذلك كقولك لمن يرى تأذّيا بشيء لا يعرف نفع مآله : هذا لك لا عليك.

قوله : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ)(٤) أي في حكمه وعلمه وإيجابه ، وقيل : معناه أنزل الله في كتابه أنكم لا بثون إلى يوم القيامة.

قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ)(٥) أي في حكمه وشرعه. قوله : (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)(٦) أي ولا حجة ظاهرة ، فإنّ الكتاب يعبّر به عن الحجة الثابتة.

قوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(٧) إشارة إلى العلم والتحقّق والاعتقاد ، وقال القتيبيّ : المعنى يحكمون ؛ يقولون : نفعل بك كذا وكذا ونطردك ونقتلك ، وتكون العاقبة لنا عليك. قلت : وقد عكس الله عليهم آمالهم كلّها فطردوا وقتلوا. وكان له العاقبة عليهم ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٨).

__________________

(١) ٥١ / التوبة : ٩.

(٢) وفي الأصل : علينا ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٣) ٢١ / المائدة : ٥.

(٤) ٥٦ / الروم : ٣٠.

(٥) ٣٦ / التوبة : ٩.

(٦) ٢٠ / لقمان : ٣١.

(٧) ٤١ / الطور : ٥٢ ، وغيرها.

(٨) ٨٣ / القصص : ٢٨.

٤٣٨

قوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)(١) فيه إشارة لطيفة إلى تحرّي النكاح وذلك أنّ الله تعالى خلق للخلق شهوة النكاح ليتحرّوا بها طلب النّسل ، الذي يكون سببا لبقاء نوع الإنسان إلى غاية قدرها ونهاية حصرها ، فيجب للإنسان أن يتحرّى بالنكاح ما جعل الله له على حسب مقتضى العقل والديانة. ومن تحرّى النكاح حفظ النسل وحصّن النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له ، وإلى هذا أشار من قال : أراد بما كتب الله لكم الولد.

وقد يعبّر بالكتب عن الإيجاد ، فيقابل بالمحو والإزالة ، كقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٢) بعد قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، فنبّه أنّ لكلّ وقت إيجادا فهو يوجد ما تقتضي الحكمة إيجاده ويزيل ما تقتضي الحكمة إزالته ، وقد دلّ قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) على نحو ما دلّ عليه قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(٣).

قوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ)(٤) فالكتاب الأول : ما كتبوه بأيديهم المذكورة بقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ)(٥). والثاني : التوارة. والثالث : جنس كتب الله تعالى كلّها أي ما هو من شيء من كتب الله تعالى وكلامه.

قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، فيه تنبيه أنّهم يختلقونه ويفتعلونه ؛ فكما نسب الكتاب المختلق إلى أيديهم نسب الكلام المختلق إلى أفواههم فقال تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)(٦).

قوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ)(٧) يجوز أن يكون الكتاب والفرقان عبارة

__________________

(١) ١٨٧ / البقرة : ٢.

(٢) ٣٩ / الرعد : ١٣.

(٣) ٢٩ / الرحمن : ٥٥.

(٤) ٧٨ / آل عمران : ٣.

(٥) ٧٩ / البقرة : ٢.

(٦) ٣٠ / التوبة : ٩.

(٧) ٥٣ / البقرة : ٢.

٤٣٩

عن التوراة وسمّاها كتابا باعتبار ما أثبت فيها من الأحكام ، وفرقانا باعتبار ما وقع فيها من الفرق بين الحقّ والباطل.

قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً)(١) أشار بالكتاب إلى الحكم والقضاء المبرم ، ولذلك وصفه بكونه مؤجّلا أي مذكورا أجله ووقته.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها)(٢) أي سأل كتابها. وكنّوا بذلك عن الاختلاق ؛ قال بعضهم : الاكتتاب متعارف في الاختلاق ، وقيل : اكتتبها : كتبها من ذاته لنفسه ، وقيل : كتابتها له. ومنه حديث ابن عمر : «من اكتتب ضمنا بعثه الله تعالى» (٣) قلت : الضّمن (٤).

وحيثما ذكر الله أهل الكتاب فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل أو هما جميعا. قوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ)(٥). أراد بالكتاب كتب الله غير القرآن لأنّه جعل القرآن مصدّقا له. قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً)(٦) قيل : أراد به القرآن ، وقيل : أراد القرآن وغيره من الحجج والعقل والعلم.

قوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ)(٧) أراد به سليمان ، وبالكتاب علما من العلوم التى آتاها الله تعالى سليمان في كتابه المخصوص به ، وبه سخّر له كلّ شيء.

قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ)(٨) قيل : أراد بالكتاب جمع جنس الكتب فوضع الواحد موضع الجمع (٩) كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس ، ويؤيده قوله : (كُلٌّ آمَنَ

__________________

(١) ١٤٥ / آل عمران : ٣.

(٢) ٥ / الفرقان : ٢٥.

(٣) النهاية : ٤ / ١٤٨.

(٤) ولم يقل بعدها شيئا. وفي النهاية : أي من كتب اسمه في ديوان الزّمنى ولم يكن زمنا.

(٥) ٣٧ / يونس : ١٠.

(٦) ١١٤ / الأنعام : ٦.

(٧) ٤٠ / النمل : ٢٧.

(٨) ١١٩ / آل عمران : ٣.

(٩) إما لكونه جنسا كالدرهم في المثال ، وإما لكونه مصدرا في الأصل نحو عدل.

٤٤٠